مساكينٌ من لا يسمعونَ موسيقى الجاز ..
لأن موسيقى الجاز لا تتسلل إليك، لا تحاول إغوائك، لا تسعى للفتِ انتباهك، وبالتأكيد هي لا تُغازل حواسّك بالساكسفون .. الجاز أكثرُ عنفواناً من ذلك بكثير، وأكثرُ جموحاً ..
الجاز حُرّية .. والحُرّية جامحة، صاخبة، تضرمُ في جنباتِ الروح النار، ثم ترقصُ حولها حدّ الهلاك ..
الجاز تاريخٌ طويلٌ من النِضال، من الرفض، من البحث عن المعنى، والتمسّك بالحق ..
الجاز التقاطٌ للبقايا، وتحويلها لأكثر الأعمالِ الفنّيةِ دهشة ..
الجاز غربة، ألم، وحشة، تلقائية، فرادة، جنون، إبداع، انسياب، تجدّد، وقاموسٌ لا يُحكى بل يستقرّ في أعماقِ الوعي ..
الجاز كالدّين .. لا يعترف بالمنطق، ولا الأدلة والإثباتات والبراهين،لكنّه الإيمانُ المطلق، المشاعرُ التي تجتاحُ تفاصيلَك كأولِ قصةِ حُبّ، كأولِ قُبلة، كأولِ امرأةٍ تضمّها طفلاً فتغدوا بعدها كهلاً .. !
الجاز مرآةٌ للتنوع، للتناغم، للانسياب التام، للخفّة والتحليق كغيمة تؤمن أنها أينما حلّت سقَت، هذا التنوع هو ما جعله أكثر قوة، متانة، صخب، وأسرع انتشارا من نارٍ تأكلُ الهشيم وتحيله رماداً ..
الجاز ثقبٌ في الروح يسعى العازف لرتقه بكلّ ما يملك من مشاعر وأحاسيس، يستحضر بذلك كل قصص الحبّ، كل اللحظات الدافئة، كل طقوس المحبين في التعبير عن مشاعرهم القلقة والعميقة، وإن لم تفلح استحضر النقيض تماما فيسترجع كلّ وجع الخيبات، ومرارة خذلان، وكل سعي نحو الالتحام بمن يصهر القلب من نظرة ..
الجاز هو موعد الوجع المؤجل الذي يحفر في القلب موضعه، ثم يستقرّ دون حراك، هو تلك الجمرة التي كلما وطئناها ظللنا نقفز على حافّة الهاوية بين السقوط واللاسقوط، هو نفحة العذابات التي نستحضرها بين كلّ معزوفة وأخرى ..
الجاز هو رائحةُ عرقِ المُتعبين، الموجوعين، المأنونين، المهمّشين الأبطال في عوالهم وأزقتهم الخاصة، رجالُ الظِلّ في كلّ ما عداها، وكلّ من لا نراهم بعين الندّ ..
والجاز في ذات الوقت هو بريقُ الفرح في عين الطفل وهو يركض خلفَ كرته لا يبالي بجنون هذا العالم، وحماقاته الغير المنتهية، ولا إجحافه في حقه، ولا ادعاءات هيئات ومنظمات حقوق الإنسان التي تنتهك الإنسانية كل يوم ألف مرة ..
الجاز هو تعويذة الجدّة لحفيدتها وهي تضفّرُ شعرها لجديلتين على كلّ منهما شريطةٌ بيضاء كبياضِ أمنايتها لها بمستقبل أقلّ وجعاً وخذلاناً من ماضيها ..

مساكين من لا يسمعون موسيقى الجاز
مساكينٌ من لا يسمعونَ موسيقى الجاز ..
فالجاز يُعيد ترتيب الأشياء، الأشخاص، والزمكان، ويفتحُ الأبوابَ الموصدة في وجهِ الشمس كي تُطهّر جِراحَ الذات ..
الجاز هو اللانظام، هو الارتجال، هو عمقُ الساكسفون، وجعُ التشيللو، انسيابُ البيانو، شغبُ الجيتار، صياحُ الترومبون، وضجيجُ الدرامز .. هو نحنُ هنا، على قدمِ المساواةِ وتمام الإنسانية، والكثير من الأمل .. !
الجاز هو فنّ الممكنات، هو آرمسترونغ، نينا سيمون، كارلوس مينكوس، فرانك سينارترا، كولمن هاوكينز، ميليس ديفيس، جون كولتراين، ديف بروبيك، دوك إلينغتون، ليستر يونج، أوسكار باتيرسون، تيدي ويلسون، ري تشارلز، بين ويبستير، بيلي هوليدي، هو اللحظة التي تحاولُ فيها التقاطَ أنفاسك الهاربة وأنت تحاولُ استحضارَ كل أولائك المجانين المبدعين الذين مرّوا في رحلة الانعتاق من الوجعَ بالجاز، بالموسيقى .. !
الجاز ليس موسيقى فحسب ..
مساكينٌ من لا يسمعونَ موسيقى الجاز .. !
بالرغم من معرفتي القصيرة بموسقي الجاز الا انني اعتقد إني وقعت في غرامها ولا اعرف السبب