كنت أعمل في إحدى الشركات الناشئة، وكان مديري حينها شاباً يافعاً مليئاً بالطاقة والحيوية والإلهام.
أتى في صباح أحد الأيام مرتدياً ابتسامته المليئة بالطاقة المعدية، وقف أمام مكتبي وسألني: عندك شي بكرة؟
لم يكن لدي شيء مهم عدا المهام اليومية التي تتطلب مني البحث والكتابة وصناعة أفكار جديدة، إلا أني لم أتوقع أن يكون عدم وجود شيء مهم في روتيني العملي مبرراً كافياً لاستقل معه رحلة من جدة للرياض، فقط لأشرب فنجان قهوة مع أحد الأشخاص وأعود في نفس اليوم!
بعد عدة أيام تكرر ذات الأمر، سافرت معه لمقابلة نفس الشخص، لكن هذه المرة لتناول وجبة الغداء والعودة بعدها مباشرة. ثم للمرة الثالثة سافرنا للقائه في جلسة مسائية هادئة لتناول القهوة كذلك، إلا أن هذا اللقاء كان مختلفاً، لأننا لأول مرة نتحدث عن ما نفعله، والخدمات التي نقدمها كشركة، ولم يكن حديثنا عن شركتنا مبادرة منّا بل إجابة لسؤال عفوي من هذا الشخص الذي نلتقيه للمرة الثالثة قائلاً: أنا للحين ما أدري وش مجالكم ولا وش تسوون؟
اللقاءين السابقين كانا مليئين بالأحاديث الودية وذات الطابع الشخصي، لكن هذا اللقاء تحول فجأة للقاء مهني وعملي، فبعد أن عرف عن الخدمات التي نقدمها والجهات التي تعاملنا معها، رتب لاجتماع مهم كانت نتيجته مشروع يعتبر الأضخم في مسيرة الشركة آنذاك.
منذ ذلك الحين وسؤال يتردد في ذهني، لماذا وثق في قدرتنا على الأداء والإنجاز بكفاءة وهو لا يعرفنا بشكل حقيقي ولم يجرب خدماتنا من قبل؟!
قرأت مؤخراً أن هناك دراسات أجريت في عدة دول عن العلاقات المهنية وكيفية تكوين الثقة، وكان مما خلصت له أن الثقة تبنى بأشكال وطرق مختلفة بحسب طبيعة المجتمع. ففي أمريكا تحدث العلاقات المهنية بشكل سريع ثم تبنى الثقة بين الأطراف مع الوقت، في حين أن دول أمريكا الجنوبية وبعض الدول العربية والآسيوية لا تبنى الثقة إلا بتواصل وتعارف مسبق، على شكل لقاءات غير رسمية وأحاديث عن الجوانب الشخصية والمواضيع الاجتماعية والغير مهنية. مما خلصت إليه الدراسة كذلك أن هناك عدة أنواع للثقة:
فهناك ثقة تُبنى على الصفات، وغالبا يحوذ عليها الأشخاص الذين يتمتعون بحس المسؤولية.
وثقة تبنى على المنطق ولغة الأرقام والإيجابيات والسلبيات. ويحوذ عليها المنجزون والناجحون.
وثقة تعاقدية فيمثل العقد وسيلة الثقة والضامن بين الطرفين كما في المعاملات المؤسسية والتجارية.
وثقة تبنى على التوقعات الاستباقية، فكوني أثق بك يعني بالضرورة أنك تبادلني الثقة كذلك.
آخرها الثقة المبنية على ردة الفعل المتجاوبة، فحين تثق بأحدهم يشعر أن عليه التزام أخلاقي للوثوق بك حتى لو لم يكن مقتنعا أو راغباً!
لذلك السفر لمدينة أخرى وتناول فنجان قهوة والعودة مجدداً خلال سويعات، على غرابته يبدو أنه سبب كافي ومقنع جداً لبناء جسر من الثقة بينك وبين الآخر.
وهذا يقودني لنقاش آخر -ربما في تدوينة أخرى- هل شعرت يوماً بأنك مجبر على أن تثق في شخص مع عدم رغبتك واقتناعك بأن تمنحه ثقتك أصلاً؟!