مارس دورك بنزاهة

قام الناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت بجمع وانتقاء شهادات العشاق من الأدباء والفلاسفة والشعراء عن وصف ألم العشق ووجعه، ومعاناتهم فيه، وجمعها في كتاب سماه “شذرات من خطاب في العشق”، أقتبس هنا من الكتاب هذه المقولة: “أول مانقع في حبه هو المشهد، الصورة التي نشاهدها للمرّة الأولى، فيؤطّر المشهد، ويُصبح حادّاً وواضحاً، لكنه يتحوّل بشكل تلقائي إلى ذكرى” !

وسأخرج من السياق العشقي للكتاب وحالات التماهي في الحبّ إلى اتساع الحياة، التي يكون فيها ألم العشق مجرّد ألم من آلام كثيرة وأنواع مختلفة من المعاناة التي نتجرعها كلّ يوم ..

في الحياة نقع دائما في البداية في حب المشهد، أيّا كان ذلك المشهد؛ صداقة، عمل، زواج، مرحلة جديدة من الحياة .. إلخ من البدايات التي نحبّ الصورة الذهنية التي نكونها عنها في ذاكرتنا، فنقوم بتأطير ذلك المشهد البديع وجعله صورة خالدة في أنفسنا وكأننا بذلك نصنع من هذا المشهد معيارية للكيفية التي ينبغي أن تكون عليها هذه الصداقة، والعمل الجديد الذي انتقلنا إليه للتو، وصورة الزواج المثالي مع شريكة الحياة كما نراه، والمرحلة الجديدة من العمر بكل توقعاتها وآمالها العريضة ..

فيصبح المشهد فعلا حادّاً وواضحاً، نراه بكل تفاصيله، التي نغرق فيها، ونعيد ضبط إيقاع الحياة عليه، فإن خرجت الأمور عن السيطرة أو ساءت نعود للوراء ونسترجع المشهد الذي جعلناه معيارا لما يجب أن تكون عليه الأمور والصورة الحقيقية، ونبحث عن الثغرات ومخابئ النقص كي نكمل الصورة المثالية للمشهد المؤطر في ذاكرتنا ..

لكننا وبشكل ما ننسى حقيقة انعدام المعيارية في الحياة، انعدام الثبات وما يجب أن تكون الأمور عليه، وأن الحياة ليست عادلة بالشكل الكافي لتنصفنا، وليست أخلاقية بالشكل الكافي لتعطينا حقّنا وإن كنا صادقين ومنسجمين مع المعايير الأخلاقية للكون ..

لذلك نرثي بشكل أو بآخر أنفسنا ومن نحب من خلال عبارات ساذجة مثل: “ما يستاهل، ماله نصيب، حرام والله يصير له كذا” فكل تلك العبارات لا تقدم ولا تؤخر شيئا من حقيقة أنّ الحياة غير عادلة والناس لا أخلاقيين !

نحن نتصرف في الحياة وكأننا مؤديين على خشبة مسرح، نتقمّص الأدوار بعناية فائقة، ونستخدم القيم والمنظومة الأخلاقية التي تناسب الدور الذي نقوم به بجدارة، ولكن لا يجب أن يخدعنا هذا، علينا أن نعلم أنه دور كبقية الأدوار على خشبة الحياة، دور له مدة زمنية ببدايتها ونهايتها ومرهونٌ تماماً بالحاجة، الحاجة هي التي جعلتنا نستخدم هذا الدور في هذا الوقت وبهذا الشكل تماما .. وعندما تنقضي الحاجة سينقضي دورنا معها، وننتقل لدور جديد بقيمه ومنظومته الأخلاقية التي سنتبناها وننافح عنها .. !

لذا حاول أن تمارس دورك بنزاهة، أن تحافظ عليك من التلوث، أن تحتكم إلى ذاتك وما اخترته ليكوّن أخلاقا تعامل بها هذا الكون بكل شروره، لا تغير ذاتك مهما ساءت الظروف، فإن فقدت ذاتك فلن يعود هناك من مكسب!

قد يعجبك ايضا