معضلة صناعة التوزان
محاولة إيجاد نقطة التوازن بين العمل والعائلة هي المعضلة الأزلية التي يحاول الجميع حلّها ويفشل الأغلب فيها ، فترجيح كفّة على الأخرى كخيار واعي من الصعوبة بمكان، لذا ترجح الأولويات إحدى الكفّتين دون أن نشعر .. فماهي أولوياتك ؟!
ماهي أولوياتك ؟!
هذا هو السؤال الذي سألته لنفسي بعد مشاهدتي لفيلم A Family Man وأنصحك إن لم تكن قد شاهدته أن لا تكمل هذا المقال، لأنّي -بشكل أو آخر- سأحكي لك قصّة هذا الفلم المتقاطع بشكل جوهري معي شخصياً ومع الكثير ممن يشابهوننا من الباحثين عن التوازن بين العمل والعائلة في ظل تغوّل العمل على حياتنا الشخصية، ففي خضم زخم العمل ننسى العائلة تماماً، ننسى مركزيتنا في الحياة والأشخاص الذين هم وبلا شك الأهم لدينا، لكننا ننساهم ليس بممارسة طقوس أنانية، بقدر ما أننا ننشغل عنهم بهم، ونتناساهم لأجلهم !
فنحن ننغمس في العمل ونغرق فيه بشكل تدريجي حتى نستطيع أن نوفر لهم حياةً كريمة لا نحوجهم فيها إلى شيء أو أحد، ونكون قادرين على تلبية احتياجاتهم ومتطلباتهم، وتأمين مستقبلهم، إلا أن هذا كله ربما لا يكون كافياً!
ولكننا لا ندرك ذلك حينها، فالعمل أولوية قصوى خاصة في هذا الصراع الرأسمالي الضخم الذي يتطلب منك حضوراً كاملاً وذهناً صافياً وعملاً دؤوباً وجهداً متواصلاً دون أعذار ولا تبريرات، فعجلة الرأسمالية لا تسمح لأحد بأن يعرقل سيرها، فهي كبيرة للحد الذي تستطيع فيه دهسك دون هوادة وملئ شاغرك بآخر في أسرع وقت ممكن ..
ننشغل عنهم بهم، ونتناساها لأجلهم!
أثناء غرق “داني” في العمل يكتشف بأن ولده مصاباً باللوكيما “سرطان الدم” وهنا تكون صفعة الخد الأولى التي يتلقاها، ثم تليها صفعات متتالية حين ينكشف عنه غطاء التقصير الذي يخفي ملامحه، ويكتشف كم هو بعيد عن زوجته وأبناءه !
يحاول التعويض ولكن هل يستطيع بعد كل هذا ؟!
والأسوء من كل ذلك وبرغم كمّ المعاناة والأسى الذي يتجرعه نتيجة مرض ولده والذي تطور ليدخل في غيبوبة طويلة يقوم مديره في العمل وصاحب الشركة التي يعمل بها بفصله !
اسودّت الدنيا أمام عينيه بطريقة بشعة، لكن المضحك هو ردّة فعل زوجته “غريتشين” التي عندما أخبرها بفصله عن العمل ضحكت وقالت له “آخيرا .. مبروك” ثم ضمّته !
في النهاية لن يتبقى لنا سوى الذين ننشغل عنهم، وهم الأهم!
هي لم تفكر حينها في مآلات فصل زوجها من عمله، والديون التي من الممكن أن تتراكم عليهم، كلّ ما كان يهمّ حقيقةً بالنسبة لها أن زوجها تحرر من عبوديته الأزلية لوظيفة امتصّت منه حياته، أصدقاءه، وأبناءه، والأهم نفسه ..
ترى كمّ عدد الأشخاص الذين يعيشون ما يعيشه “داني” الآن ؟!
تحقيق التوازن بين العمل والحياة العائلية مطلب يراه الغالبية –وأنا منهم- شبه مستحيل، ولكن على الرغم من ذلك فإن السعي في خلق هذا التوازن قدر المستطاع ضروري جداً، ففي النهاية لن يتبقى لنا سوى الذين ننشغل عنهم بالعمل، وهم الأهم حقيقةً. لذا هذه بعض الخطوات التي ستساعد على خلق مساحة من التوازن المهمة بين العائلة والعمل، لا أدعي بأني أطبقها، ولكني أسعى في هذه الفترة من حياتي لتطبيقها قدر المستطاع.
حدّد هدفك من العمل: كل وظيفة نعمل بها لابد أن يكون لدينا منها هدفاً واضحاً ومحدداً، ربما يكون اكتساب خبرة، أو توسيع دائرة المعارف، أو المقابل المادي، وغيرها من الأهداف. لذا تحديد الهدف من العمل الذي أنت فيه الآن سيساعدك كثيراً في تحديد دورالعمل في حياتك، ووضع الأولويات بينه وبين عائلتك وحياتك بشكل عام، وسيساعدك كذلك في تحديد المدة الزمنية التي تريد قضائها من عمرك في هذا المكان.
صمّم شكل حياتك: أنت الشخص الوحيد القادر على تصميم شكل وطريقة الحياة التي يريد أن يعيشها، فيجب عليك أن تضع أساسها وأطرها وتقيم أعمدتها بالشكل الذي يلائمك أنت وعائلتك، وبالتالي تضع الحدود والحواجز لما تريده ومالا تريده. صدقني إن لم تقم أنت بذلك فهناك الكثير من الأشخاص الذين على استعداد لتصميم شكل حياتك بما يتناسب مع احتياجاتهم هم، خاصة العمل.
حدّد مهامك اليومية: تقييد نفسك بمهام يومية محددة لابد من إنجازها سواء في العمل، على الصعيد الشخصي، مع عائلتك، أو أصدقائك، سيجعلك تحرص على أن تفي بتلك المهام والوعود التي قطعتها، مما سيجعلك تضع في اعتبارك وقتا تتوقف فيه عن العمل لإنهاء تلك المهام.
حافظ على وقتك الخاص: لابد من أن تقوم بتحديد وقت خاص لك ووقت خاص لعائلتك، أشبه ما يكون بوقت مقدس لا تستطيع تجاوزه، وليس شرطا أن يكون طويلا، فقد تكون ساعة الغداء هي وقتك الخاص مع العائلة الذي لا تفوته مهما حدث، لكن من الضروري جداً أن يكون هناك وقتا خاصاً بهم، يعرفونه وينتظرونك فيه، وأن يكون لك أنت كذلك وقتك الخاص الذي تقرأ فيه، وتطور ذاتك، أو تبحث فيه عن الهدوء والسكينة والسلام النفسي.
حدّد وقت نومك واستيقاظك: من أهم العوامل على تنظيم اليوم وبالتالي تنظيم الحياة هو تحديد موعد للنوم وموعد للاستيقاظ لا تتجاوزه، فالموعدين كفيلان بجعلك تنهي مهامك في وقت جيد وتبدأ يومك بشكل جيد وطاقة متجددة.
تعلم أن ترفض: علّم نفسك أن تقول لا في الوقت المناسب، ليس من الصواب أن تقول لكل شيء نعم، وليس من المنطقي كذلك أن تقبل كل المهام الملقاة عليك في كل وقت، هناك وقت للعمل ووقت للحياة، تذكر دائما بأن العمل جزء من يومك وحياتك، ليس كلّ يومك وليس كلّ حياتك، العمل لا يعطي لحياتك قيمة، أنت من تعطي لحياتك قيمة بما تفعله فيها، والعمل جزء مما تفعله في الحياة بشكل عام.
تذكر أتك لست سوبرمان: ولن تكون أبداً .. لذا تذكر هذا جيداً في كلّ مرة يحاول فيها مديرك أن يقنعك بأنه بحاجة إلى “جوكر” وشخص “خارق” مثلك ليقوم بما لم يقم به أحد من قبل، لكي ينجز مالم ينجزه أحد من قبل !
أنت إنسان لديه طاقة وقدرة على التركيز والعطاء، لن تستطيع العمل 24 ساعة في اليوم، ولن تستطيع أن تقدم لعملك الجودة المطلوبة إن كنت مستنزفاً ومجهداً بهذا الشكل، أنت بهذه الطريقة تضرّ بصحتك، وجودة عملك، وبالتالي سمعتك الوظيفية المترتبة على سوء مخرجاتك. فخذ نفساً واعطي نفسك حقّها من الراحة.
مارس رياضة تحبها: ممارستك اليومية ولو لنصف ساعة فقط لنشاط رياضي محدد، أو لأحد أنواع الرياضات التي تفضلها سيساعدك كثيرا على الاسترخاء، والتركيز، واخراج الطاقة السلبية التي تعلق بك خلال يومك، وتعيد تدفق النشاط إليك.
بعد هذه التوصيات لا يسعني أن أقول لك سوى أن الحياة أقصر مما نظن، لكنها مليئة بالخيارات، فاختر لحياتك ما تراه الأنسب، وحاول أن لا تندم على نتائج تلك الاختيارات لأنك اخترت الخيار المناسب وفقا للمعطيات المتوفرة لديك حينها ..